تبدو حبات الرمال صغیرة فی أعیننا لذا دعونا بدایةً
نوضح ما یمکن أن تفعله تلک الحبات “الصغیرة”، لندرک من منا فی الحقیقة صغیر
بالنسبة للآخر:
تخیلوا أن هذا الجدار الهائل الذی یزحف على مدینة بأکملها ما هو إلا حبات من الرمال التی حملها الهواء لینقلها من مکان لآخر!
تعرف
هذه الظاهرة بعدة أسماء منها “العواصف الرملیة” أو العواصف الترابیة أو
الهبوب، وفیها یظهر فجأةً جدار من الغبار والرمال التی تزحف على کل ما
یقابلها لیتحول النهار إلى لیل ویظلم کل شیء!!
تحدث
هذه الظاهرة الجویة فی المناطق الجافة والصحراویة، وتنتشر بشکل کبیر فی
أفریقیا ومنطقة الشرق الأوسط خاصةً الجزیرة العربیة، لکنها تحدث أیضاً فی
کثیر من المناطق حول العالم أینما توفرت الرمال والریاح.
الصور
التی شاهدتموها بالأعلى هی أحد العواصف الترابیة التی ضربت صحراء النقب
جنوب فلسطین المحتلة، وفیها وصل ارتفاع جدار الغبار لأکثر من 1.2 کیلومتر
کما ذکر المصور، بینما وصلت سرعة الریاح لأکثر من 60 کیلومتر!!
وهذه صورة أخرى من السودان:
للعواصف
الرملیة الکبرى عدة حوادث شهیرة فی التاریخ لعل أشهرها ما حدث فی صحراء
مصر 500 عام قبل المیلاد حین دفن جیش قمبیز الثانی بأکمله (50,000 مقاتل)
فی الرمال بسبب عاصفة رملیة، ولم یعثر على أی أثر لهم حتى الیوم!
لکن کیف تحدث هذه الظاهرة وما أسبابها؟
تحدث
ظاهرة العواصف الرملیة عادةً فی المناطق التی تضم رمالاً جافاً کالصحراء،
وحین تصل سرعة الریاح لحد معین (14.5 کیلومتر فی الساعة) تکون کافیة لإحداث
اهتزازات لجزئیات الرمال لتبدأفی التقافز مع الریاح، ویختلف تأثیر الریاح
على حبیبات الرمال باختلاف حجمها، فتستطیع الریاح بسهولة حمل الجزئیات
الصغیرة أما الکبیرة فتزحف مع الریاح على الأرض وتؤدی بزحفها ذاک لتطایر
جزئیات أخرى!
لا تحدث العاصفة بشکلها المرعب
بسبب التأثیر الفیزیائی المباشر فقط، بل تؤدی حبیبات الرمال المحمولة جواً
إلى تولید مجال من الطاقة الاستاتیکیة التی تجذب مزیداً من الحبیبات،
تماماً کما تفعل البالونة أحیاناً حین تقربها من رأسک فتقوم بجذب شعیراتک.
صورة لعاصفة ضربت ولایة تکساس الأمریکیة سنة 1953
تخیل أن ترى أمامک جداراً من الرمال یصل ارتفاعه لضعف ارتفاع أعلى ناطحة سحاب بناها الإنسان!!
تکمن
مشاکل هذا النوع من العواصف فی عدة أمور أولها أنه تحدث فجأة دون أی
تحذیر، وحین تحدث یتحول النهار إلى لیل وتصبح الرؤیة مستحیلة
المشکلة
الثانیة هی تأثیرها على خصوبة التربة فی المناطق التی تنقل الغبار منها.
لذا تؤدی هذه الظاهرة إلى تصحیر مناطق جدیدة کل عام وتهجیر مئات آلاف
السکان.
المقلق
أن معدل حدوث هذه العواصف تضاعف خلال الخمسین عاماً الماضیة، ویظن العلماء
أن أنشطة البشر الضارة بالبیئة هی أحد أسباب زیادة هذه الظاهرة.
مع
أن الصور التی شاهدناها وما ذکرناه من معلومات عنها حتى الآن لا یبشر بأی
خیر، لکن فی الحقیقة ظاهرة العواصف الرملیة من الظواهر المفیدة للحیاة على
الأرض، فتخیلوا مثلاً أن الریاح تحمل 40 ملیون طن کل عام من الصحراء الکبرى
لغابات الأمازون لتثبیت أشجارها والإبقاء على خصوبة أرضها!!
وأترککم ختاماً مع مقطع من مقدمة ابن خلدون یتحدث فیه فوائد عن هذه الظاهرة:
“ذکر
أن الأرض بعد تقلب الفصول من فصل إلى فصل (أی من الشتاء إلى الصیف) تبدأ
بلفظ أمراض وحشرات لو ترکت لأهلکت العالم، فیرسل الله الغبار..
فتقوم هذه الأتربة والغبار بقتلها..
وتتراوح
حجم حبة الرمل بحسب الحشرة فبعضها صغیر یدخل عیونها وبعضها یدخل أنوفها
وبعضها فی جوفها وبعضها فی أذانها وتمیتها . وأیضا تلفظ الأرض الأمراض بعد
الرطوبة خلال فصل الشتاء. .فلا یقتلها ویبیدها إلا الغبار.
فسبحان من بیده التدبیر وله الحکمة البالغة..”
************